بين العطش والقمع.. إيران تواجه أزمة بيئية وإنسانية غير مسبوقة

بين العطش والقمع.. إيران تواجه أزمة بيئية وإنسانية غير مسبوقة
أزمة نقص المياه في إيران

في الوقت الذي تحتفي فيه الأمم المتحدة باليوم الدولي للحد من مخاطر الكوارث في الثالث عشر من أكتوبر، تعيش إيران واحدة من أسوأ الأزمات البيئية والإنسانية في تاريخها الحديث. وبينما يدعو "إطار سينداي للحد من مخاطر الكوارث" إلى الوقاية والمشاركة المجتمعية، تكشف الوقائع داخل إيران، وفق تقرير نشرته منظمة "حقوق الإنسان في إيران" الاثنين، عن نموذج مضاد تمامًا: نظام سياسي حول الطبيعة إلى ضحية، وحوّل أزمة البيئة إلى ساحة أخرى لقمع الحقوق الأساسية.

وتواجه إيران انهيارًا بيئيًا واسع النطاق، فبحسب بيانات رسمية نُشرت في أكتوبر 2025، اقتربت 19 من السدود الرئيسية في إيران من الجفاف الكامل، في حين جفت ثلاثة خزانات بالفعل، وتشير إحصاءات وزارة الطاقة إلى أن احتياطيات المياه في سدود العاصمة طهران انخفضت إلى نحو 258 مليون متر مكعب فقط، أي أقل من ثلث احتياجات المدينة السنوية، ما يضعها على أعتاب "يوم الصفر المائي" الذي حذرت منه الأمم المتحدة.

وفي أصفهان، بلغ هبوط الأرض مستويات مقلقة تصل إلى 25 سنتيمترًا سنويًا، في حين حذر مركز أبحاث مجلس الشورى الإيراني من أن 29 محافظة تعاني من درجات متفاوتة من الهبوط الأرضي نتيجة الضخ المفرط للمياه الجوفية، أما بحيرة أرومية في شمال غرب البلاد، والتي كانت يوماً ما أكبر بحيرة مالحة في الشرق الأوسط، فقد تحولت إلى سهل ملحي قاحل، تهدد عواصفه السامة صحة مئات آلاف السكان.

مشروع كوتوند

يُعد سد كوتوند في إقليم خوزستان رمزًا لفشل السياسات المائية في ظل نظام الملالي، فقد أدى السد الذي بُني دون دراسات بيئية كافية، إلى ارتفاع ملوحة نهر كارون، وتدمير الزراعة في واحدة من أغنى مناطق البلاد مائيًا، واعترفت وزارة البيئة نفسها في بيان رسمي بأن بناء السد كان “خطأً استراتيجيًا”، مؤكدة أن تدميره أصبح الخيار الوحيد لإنقاذ النهر.

لكن المشكلة لا تكمن في الأخطاء التقنية وحدها، بل في بنية السلطة الإيرانية نفسها، إذ تسيطر مؤسسة “خاتم الأنبياء” التابعة للحرس الثوري الإيراني على معظم مشاريع المياه الكبرى، ما جعل إدارة الموارد الطبيعية أداة للنفوذ الاقتصادي والعسكري، ووفقًا لتقارير خبراء بيئة إيرانيين، يُنفق مليارات الدولارات من أموال الدولة على مشاريع تُفاقم الجفاف بدلًا من الحد منه.

وفي السنوات الأخيرة، خرج آلاف الإيرانيين إلى الشوارع في احتجاجات مطلبية تحت شعار “الماء والحياة”، شهدت محافظتا خوزستان وأصفهان كبرى تلك التظاهرات، حيث طالب المزارعون والمواطنون بحقهم في المياه النظيفة وإنقاذ أنهارهم، غير أن رد النظام كان أمنيًا بامتياز، إذ استخدمت قوات الأمن الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع، واعتقلت العشرات من النشطاء والصحفيين والمزارعين.

وأكدت منظمة العفو الدولية أن استخدام الذخيرة الحية ضد المحتجين في خوزستان “يمثل انتهاكًا صارخًا لحق الحياة والتجمع السلمي”، في حين ذكرت هيومن رايتس ووتش أن “السلطات الإيرانية تعاملت مع أزمة المياه بوصفها تهديداً أمنياً بدلًا من اعتبارها تحديًا إنسانيًا يتطلب الشفافية والمساءلة”.

قمع المعرفة وتكميم العلماء

إلى جانب القمع الميداني، شمل التضييق نشطاء البيئة والعلماء الذين حاولوا دق ناقوس الخطر، فقد سُجن عدد من أبرز الباحثين البيئيين بتهم تتعلق بـ"التجسس" و"الإضرار بالأمن القومي" بسبب دراساتهم حول انقراض الفصائل الحيوانية وتدهور الأنظمة البيئية، وتشير منظمة حقوق الإنسان في إيران إلى أن الحكومة “حوّلت البيئة إلى منطقة محظورة للنقاش العام”، وأن أي محاولة لتوثيق الأضرار البيئية تُعد عملًا معاديًا للدولة.

وتتجاوز تداعيات الأزمة في إيران البعد البيئي لتصبح كارثة إنسانية شاملة. ففي خوزستان، يعتمد السكان على صهاريج مياه متنقلة في ظل حرارة تتجاوز خمسين درجة مئوية، في حين تفشت أمراض جلدية ومعوية نتيجة تلوث المياه، وفي أصفهان، أدى الجفاف إلى تدمير الزراعة التقليدية وتهجير آلاف الأسر الريفية، أما العاصمة طهران، فتواجه خطر انقطاع المياه والكهرباء في صيف كل عام، مع تصاعد التحذيرات من أزمة صحية عامة بسبب موجات الحر المتكررة.

وفي سبتمبر وأكتوبر 2025، اندلعت إضرابات في قطاعات النفط والغاز والمخابز والبلديات احتجاجًا على ظروف العمل والأجور، لكن تقارير ميدانية أشارت إلى أن جذور الأزمة اقتصادية وبيئية معًا، إذ أدى نقص المياه والطاقة إلى تعطيل الإنتاج ورفع الأسعار، ما فاقم مستويات الفقر والبطالة في إيران.

التعتيم في إدارة الكوارث

من أكثر مظاهر الأزمة خطورة أن السلطات الإيرانية تتعامل مع الكوارث البيئية بوصفها أسراراً أمنية، فقد حُجبت البيانات المتعلقة بجودة المياه ومستويات السدود عن الجمهور، وجرى تكميم الصحفيين الذين حاولوا توثيق الفيضانات والجفاف.

وأكد المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في إيران أن هذا "الإخفاء المنهجي للمعلومات" ينتهك الحق في الحصول على المعرفة والمشاركة في إدارة الموارد العامة، وهو حق أساسي تكفله المواثيق الدولية.

وصنف برنامج الأمم المتحدة للبيئة إيران ضمن أعلى خمس دول عالميًا في معدلات هبوط الأراضي وتدهور الموارد المائية والجفاف، محذرًا من أن استمرار السياسات الحالية قد يجعل بعض المناطق “غير صالحة للسكن خلال عقد واحد فقط”، كما دعا الاتحاد الأوروبي إلى ربط أي تعاون بيئي مستقبلي مع طهران بإصلاحات مؤسسية تضمن الشفافية والمساءلة.

من الوعود إلى الانهيار البيئي

منذ الثورة الإيرانية عام 1979، رفعت السلطات شعارات "الاكتفاء الذاتي" و"النهضة الزراعية"، لكنها انتهت إلى مشاريع مائية مركزية ضخت المياه إلى الصناعات المرتبطة بالحرس الثوري على حساب المزارعين والسكان المحليين. ومع مرور العقود، تفاقم الجفاف بفعل التغير المناخي وسوء الإدارة، في حين أُغلقت المساحات الخضراء وتراجعت الغابات إلى أقل من 7% من مساحة البلاد، بحسب تقارير البنك الدولي.

تُظهر تجربة إيران أن التدهور البيئي لا يحدث بمعزل عن التدهور السياسي، فالفساد، والإفلات من العقاب، وتسييس الموارد الطبيعية، أدت إلى ربط بقاء النظام بغياب المساءلة، وتؤكد المنظمات الدولية أن الأزمة الحالية تمثل انتهاكًا مباشرًا لالتزامات إيران بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي يكفل الحق في بيئة صحية وآمنة.

إيران اليوم ليست فقط ساحة لجفاف الأنهار والبحيرات، بل نموذج لما تسميه منظمات حقوق الإنسان “الكارثة المصنوعة”، فالمخاطر الطبيعية تفاقمت بفعل سياسات بشرية متعمدة، والبيئة تحولت إلى مرآة لانهيار سيادة القانون.

وفي ظل استمرار القمع وغياب الشفافية، تبقى الكارثة البيئية في إيران أكثر من مجرد أزمة موارد؛ إنها أزمة نظام يستنزف الطبيعة كما يستنزف الإنسان، وبينما يجف نهر زاينده رود وتتصحر بحيرة أرومية، يجف كذلك الأمل في مستقبل تحكمه العدالة البيئية وحقوق الإنسان.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية